تفريغ / مقطع من (هجر القرآن)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
يقول الله –عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه الكريم: ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا )الفرقان:30، هذه شكوى من رسول الله -صَلَّى الله عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- يشكو قومه قريشًا؛ لأنَّ الآية مكيّة، يشكوهم إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنَّهُم هجروا القرآن الكريم، والمراد أنَّهُم هجروا الإسلام، وهجروا محمدًا -صَلَّى الله عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، وأحبُّوا الكفر واستمرُّوا عليه، استمرُّوا على عبادة غير الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
عباد الله: هذه الآية وإنْ كانت نزلت شكوى من النَّبي -صَلَّى الله عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- يشكو قومه المشركين، إلَّا أنَّ الهُجران للقرآن استمرَّ حتَّى في أفراد من أُمَّة محمد، وسنتذاكر في هذا المقام شيئًا من هذا المعنى؛ ليعلم كُلّ إنسانٍ من نفسه هل عنده شئٌ من هُجران القرآن الكريم؟، فمن وجد في نفسه شيئًا من ذلك فليعلم أنَّه من جملة من شكاهم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- إلى ربِّه.
من هجران القرآن الكريم:
(1) الكفر بالله -جَلَّ وَعَلَا-:
وهو الذي من أجله نزلت الآية، فقد كان النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- يدعو قومه بِأساليب مختلفة، وبرفقٍ تام، وبنصحٍ تام، فهو أرفقُ النَّاس، وهو أنصحُ النَّاس، وهو أحلمُ النَّاس، وهو أبصرُ النَّاس بالدعوة إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ومع ذلك استمروا على إعراضهم، ألان لهم الخطاب وخشنوا له خطابهم، صبر على معاملتهم وأساؤا إليه وإلى أصحابه، بما لا يخفى على كثيرٍ منكم ما عاناه النَّبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- في دعوته قومه إلى دين الإسلام، ومع ذلك استمرُّوا على كفرهم، وكم مات منهم، وكم قُتِلَ منهم على الكفر والشرك بالله -عَزَّ وَجَلَّ-، حتَّى منَّ الله على من بقي منهم بالإسلام في عام الفتح.
ومن هجرانهم للقرآن الكريم:
(2) أنَّهم كانوا يرفعون أصواتهم من أجل أنْ يُشوِّشُوا على قراءة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، كما قال اللهُ –تَعَالَى-: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ )فصلت: 26، هكذا سوَّلت لهم أنفسهم أنَّهم لو شَوَّشُوا على قراءة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- أنَّهم غالبون، وما مثلهم إلَّا كمثل الذي يثير الغبار على السماء، وهيهات له ذلك!!، وكمن يُغطِّي بكفّه على الشمس ليحجب ضوءها عن الخلق وهيهات له ذلك!!، وهل يضرُّ السَّحاب نبحُ الكلاب؟!هكذا كان صنيعهم أنَّهم يرفعون أصواتهم، ويأتون بالكلام الباطل ليُشَوِّشُوا على قراءة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، وأبى الله -عَزَّ وَجَلَّ- إلَّا أنْ تصل القراءة إلى آذان من شاء من خلقه، وتقتحم المعاني قلوب من شاء من خلقه؛ فهدى الله من شاء منهم، فكان الرَّجُلُ مع ما يبذل من الجهد ضدَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يتفلَّت من حوله من يده، فلا يدري إلَّا وقد أسلمت زوجته، لا يدري إلَّا وقد أسلم ابنه، إلَّا وقد أسلمت ابنته، إلَّا وقد أسلم عبده، إلَّا وقد أسلم جاره، وهو مستمرٌّ في بذل الجهد للصدِّ عن سبيل الله -عَزَّ وَجَلَّ- فلم ينفعهم ذلك ( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْئَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )الأنعام:26، ينهون غيرهم، وينئون بأنفسهم ( الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ )محمد:1، وبقي نحن المسلمين: ما هو نصيبنا إنْ لم نتنبِّه لأنفسنا من معاني هذه الآية؟!، فكم من النَّاس قد أصبح من الهاجرين للقرآن الكريم، وتَصدُقُ في حقِّه الشَّكوى: ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا )الفرقان:30، من النَّاس من هجر القرآن فلا يتلوه، فرُبَّما تَمرُّ السَّنة لا يختم القرآن الكريم، وبعضهم لا يقرأ إلَّا الجزء والجزأين، وبعضهم لا يقرأهُ بالكليّة!! فالعياذ بالله هذا يؤدي إلى قسوة القلوب، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ( أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ) الزمر:22-23، وقال -جَلَّ وَعَلَا- : ( الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد:28، فيا عبد الله لابُدَّ أنْ يكون لك نصيب من القرآن الكريم، إنَّ القرآن الكريم تبذُل فيه الجهد الخفيف القليل، والوقت القصير؛ فتحظى من الأجر بما لا يخطر لك على بال ولا تدري بمقداره، كما جاء في حديث ابن مسعود قال: قال رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-: « مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ الله فَلَهُ حَسَنَةٌ، والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: (آلم) حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيْمٌ حَرْفٌ »، ففي الصَّفحة الواحدة تكتسب عشرات الآلاف من الحسنات وأنت تظن أنَّ الأمر سهل، أنت تكتسب الأجور العظيمة، فلو كُنتَ في كل يوم تقرأ جُزءًا من القرآن، فكم من الأجور تحظى بها؟!، وكم من الحِرمان يحصل لِمَن هجر القرآن الكريم؟!، من النَّاس من لا يقرأه إلَّا في رمضان، من النَّاس من في بيته نُسخة لكتاب الله قد علاها الغُبار!!، ورُبَّما تركها في الدُّرج الذي تحت التلفاز، فيجعل الباطل فوق الحق والعياذ بالله!!.
وهكذا معشر المسلمين: تراه حريصًا على وضع باكت الدّخان في مخبئه، لو وضع مصحفًا في مخبئه كان خيرًا له؛ ليقرأ القرآن متى ما وجد فرصة، ومتى ما سنحت له فرصة قرأ القرآن الكريم، وهكذا لو كُنتَ لا تحفظ إلَّا السُّور القِصار فتظلُّ في وقت فراغك تقرأ الفاتحة والمعوذتين والإخلاص وما تحفظ من سور القران الكريم، هذا خير عظيم، أو تستمع القرآن من مسجِّل أو تلفون أو غير ذلك، فيكون سمعك يُقرع بكتاب الله، وقلبك يهتزُّ مع كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- ساعة بعد ساعة.
ومن هجران القرآن الكريم:
(3) تَرْكُ تَدَبُّرِه: وترك تدبُّر القرآن دليل على أنَّ القلب مُقفل، قال اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ ) محمد:24
ورُبَّ قُفلٍ قَدْ صَدَأَ فَلَا يَنْفَتِح === وَرُبَّ قُفلٍ ضَاعَتْ مَفَاتِيحَه
فإياك أن يكون قلبك مقفلًا وقد صدأ القفل؛ فعالج قلبك بالقرآن الكريم، تدبَّر معاني القران الكريم، القرآن عربي وأنت عربي، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: فِي تَأْوِيل قَوْلهِ- تَعَالَى-: ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ ) القمر:17، يسَّر الله تلاوته وتدبره وحفظه والعمل به.
المصدر / من شريط خطبة “هَجْرُ القُرْآنِ” وقت الشريط ( 3:26 ـــ 16:02 )